أعلن علماء الآثار اكتشاف أثري مذهل بالقرب من مدينة الإسكندرية في مصر، وهو مركز تجمع سكاني يعود إلى العصر البرونزي الحديث، وتحديدًا إلى فترة المملكة الحديثة (1500-1069 قبل الميلاد) في موقع كوم النقوس، على بعد حوالي 43 كيلومترًا غرب الإسكندرية. هذا الاكتشاف، الذي يُعد الأقدم من نوعه شمال بحيرة مريوط، يُسلط الضوء على فترة ازدهار مصر القديمة خلال حكم فراعنة عظماء مثل أخناتون وتوتانخامون ورمسيس الثاني.
وفقًا لتقرير نشرته مجلة هيريتيج ديلي البريطانية، Heritage Daily، عثر على هذا الكشف المهم بموقع على سلسلة تلال تحيط بها التوسعات العمرانية الحديثة بين البحر الأبيض المتوسط وبحيرة مريوط، حيث تتميز الجهة الشرقية من الموقع بتل على شكل حدوة حصان يُعرف بـ"الكوم"، بينما تحتل نجعة هيلينستية الجهة الغربية.
في هذا المقال، نستعرض تفاصيل الاكتشاف، أهميته التاريخية، والتداعيات المستقبلية له، مع الاعتماد على مصادر صحفية إنجليزية موثوقة.
خلفية الاكتشاف: كوم النقوس وأهميته الجغرافية
يقع موقع كوم النقوس على تل صخري بين البحر الأبيض المتوسط وبحيرة مريوط، وهي منطقة كانت تُعد في العصور القديمة مركزًا استراتيجيًا بسبب قربها من الساحل وخصوبة دلتا النيل.
وفقًا لتقرير نشرته مجلة لايف ساينس في 12 أبريل 2025، اكتشف علماء الآثار بقايا مستوطنة تعود إلى حوالي 3400 عام، يُعتقد أنها أُسست في عهد الملك أخناتون، والد توتانخامون، وتم توسيعها لاحقًا في عهد رمسيس الثاني. يُعد هذا الاكتشاف الأول من نوعه في هذه المنطقة، حيث لم يُعرف سابقًا عن وجود مستوطنات مصرية بهذا الحجم شمال بحيرة مريوط خلال المملكة الحديثة.
بدأت الحفريات في الموقع كجزء من مشروع أثري بقيادة عالم الآثار الفرنسي سيلفان دينان من المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية، CNRS، وكشفت أعمال التنقيب عن بقايا مبانٍ من الطوب اللبن، وشوارع منظمة، ومعابد دينية، مما يشير إلى أن الموقع كان مركزًا سكانيًا وإداريًا مهمًا. وأشار دينان في تصريحات لموقع "لايف ساينس" إلى أن "جودة البقايا وتنظيمها حول شارع رئيسي يوحيان باحتلال واسع النطاق"، على الرغم من أن الحجم الدقيق للمستوطنة لا يزال قيد الدراسة.
تفاصيل الموقع الأثري: تخطيط حضري وأهمية دينية
وذكرت مجلة هيريتيج ديلي في تقريرها أن علماء الآثار عثروا على بقايا منازل محفوظة جيدًا، آثار شوارع، ونظام تصريف مياه متطور، مما يشير إلى وجود مجتمع مزدهر ومنظم. كما خضعت المستوطنة لمراحل بناء متعددة، مما يوحي بأنها كانت تُستخدم موسميًا كقاعدة عسكرية أو مستوطنة مؤقتة. وأفادت مجلة نيو ساينتست أن المستوطنة تضم معبدًا مخصصًا للفرعون رمسيس الثاني، بالإضافة إلى مبانٍ سكنية وإدارية. هذا المعبد، الذي يُعد دليلًا على النشاط الديني في الموقع، يعكس الأهمية الثقافية والسياسية للمستوطنة خلال المملكة الحديثة.
وأضافت هيريتيج ديلي أن علماء الآثار عثروا على شظايا من نصب تذكارية تُنسب إلى فراعنة مثل رمسيس الثاني وستي الثاني، إلى جانب ختم أمفورا يحمل اسم ميريتاتون، ابنة أخناتون ونفرتيتي. كما عُثر على أدوات منزلية وأوانٍ فخارية، مما يشير إلى حياة يومية نشطة. وأكد سيلفان دينان في تصريح للنشرة أن "هذه الفترات معروفة بكونها غنية جدًا"، مشيرًا إلى الازدهار الاقتصادي والثقافي في عهد فراعنة مثل رمسيس الثاني.
كما أشارت هيريتيج ديلي إلى أن التحقيقات السابقة ركزت على الهياكل الهيلينستية في الموقع، لكن دراسة حديثة في مركز التل كشفت عن هذه المستوطنة الأقدم. وخلال الفترة الهيلينستية، بُني معبد كبير وجدار محيط فوق البقايا القديمة، مما أدى إلى إعادة استخدام أو تفكيك جزء كبير من المستوطنة الأصلية. وفي العصر الروماني الإمبراطوري، تم تفكيك معظم العناصر الهيلينستية، مما يُبرز الطبقات التاريخية المعقدة للموقع.
السياق التاريخي: المملكة الحديثة والتوسع المصري
تُعد المملكة الحديثة (1500-1069 قبل الميلاد) واحدة من أكثر الفترات ازدهارًا في تاريخ مصر القديمة، حيث شهدت توسعًا سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا. خلال هذه الفترة، قاد فراعنة مثل أخناتون ثورات دينية، حيث حاول أخناتون تركيز العبادة حول إله الشمس "آتون". ومع ذلك، أعاد ابنه توتانخامون (حكم حوالي 1336-1327 قبل الميلاد) الديانة التقليدية المتعددة الآلهة. وفي وقت لاحق، عزز رمسيس الثاني قوة مصر من خلال حملات عسكرية وبناء معابد ضخمة. وفقًا لـ نيو ساينتست، يُظهر اكتشاف كوم النقوس دليلًا جديدًا على التوسع المصري في دلتا النيل الشمالية الغربية، وهي منطقة كانت أقل استكشافًا مقارنة بمواقع مثل طيبة أو ممفيس.
يُعتقد أن المستوطنة كانت جزءًا من شبكة إدارية وتجارية تدعم النشاط الاقتصادي في المنطقة. وتشير الأدلة الأثرية، مثل الأواني الفخارية والمباني المنظمة، إلى أن الموقع كان مركزًا حيويًا يربط بين الساحل الشمالي وداخل مصر. كما أن وجود معبد مخصص لرمسيس الثاني يعكس الدور السياسي والديني للفراعنة في تعزيز سلطتهم في المناطق النائية.
إعادة كتابة التاريخ
يُعد اكتشاف كوم النقوس "اكتشافًا كبيرًا"، كما وصفته لايف ساينس، لأنه يكشف عن جانب غير معروف سابقًا من التوسع المصري في دلتا النيل. يُظهر الموقع كيف امتدت السيطرة المصرية إلى المناطق الساحلية الشمالية، وهي منطقة كانت تُعتبر هامشية مقارنة بالمراكز الحضرية الكبرى مثل طيبة. كما أن العثور على هذه المستوطنة تحت بقايا هيلينستية يُبرز الطبقات التاريخية المعقدة للمنطقة، حيث استمر استخدام الموقع عبر عصور مختلفة.
وأشارت هيريتيج ديلي إلى أن علماء الآثار يأملون في كشف الاسم الأصلي للمستوطنة واستكشاف دورها الأوسع في تاريخ الساحل المتوسطي المصري. وأضافت أن "هذا الاكتشاف يمثل خطوة هامة في فهم استمرارية الاستيطان وتغير المشهد الثقافي في هذه المنطقة التاريخية الغنية"، كما جاء في تصريح للباحثين في دراستهم المنشورة في مجلة "أنتكويتي".
ردود الفعل وتداعيات الاكتشاف
رحب المجتمع العلمي بالاكتشاف، معتبرًا إياه إضافة مهمة إلى فهمنا للمملكة الحديثة. وأكدت نيو ساينتست أن الموقع يوفر "دليلًا جديدًا على التوسع المصري" خلال فترة كانت تُعد ذهبية في تاريخ مصر. كما أشارت إلى أن الاكتشاف يعزز مكانة مصر كمركز للابتكار الحضري والثقافي في العالم القديم.
من ناحية أخرى، أثار الاكتشاف اهتمامًا عامًا واسعًا، حيث أبرزت لايف ساينس الصلة بين المستوطنة وشخصيات تاريخية بارزة مثل أخناتون ورمسيس الثاني. ومع استمرار الحفريات، يتوقع العلماء أن تكشف المزيد من اللقى عن تفاصيل حياة السكان، بما في ذلك نظامهم الغذائي، تجارتهم، وممارساتهم الدينية.
حماية الموقع
تواجه المنطقة القريبة من الإسكندرية تحديات بيئية كبيرة، خاصة مع ارتفاع منسوب مياه البحر الأبيض المتوسط. وفقًا لتقرير نشرته لايف ساينس في 4 مارس 2025، فإن الإسكندرية تشهد تآكلًا ساحليًا متسارعًا، حيث انهار 280 مبنى خلال العقدين الماضيين، وهناك 7000 مبنى آخر معرض للخطر. هذه التحديات البيئية قد تهدد مواقع أثرية مثل كوم النقوس، مما يتطلب جهودًا عاجلة لحماية التراث الثقافي.
وأشار الباحثون إلى أن الحفريات المستقبلية ستحتاج إلى تمويل ودعم حكومي لضمان الحفاظ على الموقع. كما أن التعاون بين البعثات المصرية والدولية، كما حدث في اكتشافات أخرى مثل مقبرة توت عنخ آمون، سيكون ضروريًا لاستكشاف الموقع بشكل كامل.
نافذة على الماضي المصري
يُعد اكتشاف مركز التجمع السكاني في كوم النقوس قرب الإسكندرية إضافة ثمينة إلى التراث الأثري المصري. من خلال الكشف عن مستوطنة منظمة تعود إلى المملكة الحديثة، يوفر الموقع نظرة جديدة على التوسع المصري والحياة الحضرية في دلتا النيل. مع استمرار الحفريات، قد تُجيب الأبحاث المستقبلية على أسئلة حول اسم المستوطنة، حجمها، ودورها في الإمبراطورية المصرية. في الوقت ذاته، يُبرز هذا الاكتشاف أهمية حماية المواقع الأثرية في مواجهة التحديات البيئية، لضمان الحفاظ على هذا الإرث للأجيال القادمة.