تُعدّ العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر واحدة من أكثر العلاقات الاستراتيجية تعقيدًا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تجمع بين مصالح مشتركة تتعلق بالأمن والاستقرار الإقليمي، إلى جانب توترات ناتجة عن اختلاف الأولويات السياسية بين الجانبين. في السنوات الأخيرة، برزت قضية قطاع غزة كملف حساس، مع دعوات متزايدة في الأوساط الأمريكية للضغط على مصر لتغيير سياساتها تجاه القطاع المحاصر.
ولكن، كما يوضح تحليل معهد الشرق الأوسط في واشنطن، فإن هذا النهج لن يحقق النتائج المرجوة، بل قد يتعارض مع مصالح أمريكا طويلة الأمد في المنطقة.
السياق التاريخي والاستراتيجي لدور مصر في غزة
تاريخيًا، لعبت مصر دورًا محوريًا في القضية الفلسطينية، خصوصًا في قطاع غزة، الذي يرتبط معها بحدود تمتد عبر معبر رفح. ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، التزمت مصر بسياسة متوازنة تهدف إلى الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، مع تعزيز علاقاتها مع كل من أمريكا وإسرائيل.
بعد سيطرة حركة حماس على غزة في عام 2007، اتخذت مصر موقفًا حذرًا، معتبرة الحركة تهديدًا أمنيًا محتملًا بسبب صلاتها بتنظيم الإخوان الإرهابي، الذي يُعد خصمًا تاريخيًا للدولة القومية المصرية.
هذا الموقف دفع مصر إلى فرض قيود صارمة على معبر رفح، المنفذ الوحيد لغزة إلى العالم الخارجي الذي لا يخضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة.
ووفقًا لتقرير معهد الشرق الأوسط، فإن هذه القيود ليست مجرد رد فعل سياسي، بل هي تعبير عن استراتيجية مصرية تهدف إلى منع تصدير الفوضى إلى سيناء، حيث تواجه القوات المصرية تهديدات مستمرة من جماعات متطرفة مثل تنظيمات تابعة لداعش.
ويشير التقرير إلى أن مصر، منذ عام 2013، كثفت جهودها لتأمين حدودها مع غزة من خلال إنشاء منطقة عازلة وتدمير أنفاق التهريب، مما قلل بشكل كبير من تدفق الأسلحة والمواد غير القانونية، لكنه في الوقت نفسه أثر سلبًا على حركة السكان والبضائع.
لماذا لن يجدي الضغط نفعًا؟
أولًا، قرارات مصر بشأن غزة تستند إلى حسابات أمنية داخلية، وليست خاضعة للضغوط الخارجية. فتح معبر رفح بشكل كامل قد يعرض سيناء لمخاطر أمنية كبيرة، حيث قد تتسلل عناصر متطرفة أو أسلحة إلى المنطقة، مما يزيد من التحديات التي تواجهها مصر في مكافحة الإرهاب.
ويؤكد تقرير معهد الشرق الأوسط أن مصر ترى في استقرار سيناء أولوية قصوى، خاصة بعد الهجمات الإرهابية التي استهدفت قواتها في السنوات الماضية. على سبيل المثال، بين عامي 2014 و2017، قُتل مئات الجنود المصريين في هجمات شنتها جماعات متطرفة في شمال سيناء، مما عزز عزم القاهرة على السيطرة الصارمة على حدودها.
ثانيًا، الوضع الاقتصادي المصري يحد من قدرة البلاد على تحمل أعباء إضافية تتعلق بغزة. يعاني الاقتصاد المصري من تضخم مرتفع، ودين خارجي يتجاوز 160 مليار دولار، وانخفاض حاد في قيمة الجنيه المصري. أي دور موسع في دعم غزة، سواء عبر المساعدات الإنسانية أو إعادة الإعمار، يتطلب تمويلًا ضخمًا لا تستطيع مصر توفيره بمفردها.
أمريكا، التي تقدم مساعدات سنوية لمصر بقيمة حوالي 1.3 مليار دولار، قد تجد نفسها مضطرة لزيادة هذا الدعم، وهو أمر غير مرجح في ظل الضغوط الداخلية على الميزانية الأمريكية.
يشير التقرير إلى أن مصر، رغم جهودها المحدودة في تقديم مساعدات لغزة، مثل إرسال قوافل طبية وغذائية خلال فترات التصعيد، لا تملك الموارد لتحمل المسؤولية بشكل شامل.
ثالثًا، الضغط على مصر قد يؤدي إلى نتائج عكسية سياسيًا. يعتمد النظام المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي على صورته كضامن للاستقرار. أي تنازلات كبيرة تحت ضغط أمريكي قد تُفسر كضعف، مما يعرضه لانتقادات داخلية ويزيد من مخاطر عدم الاستقرار في بلد يُعد ركيزة أساسية للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
التقرير يلفت الانتباه إلى أن مصر أظهرت حساسية شديدة تجاه أي محاولات للتدخل في سياساتها الداخلية، مما يجعل الضغط الخارجي نهجًا غير فعال.
لماذا ليس في مصلحة أمريكا؟
من منظور أمريكي، فإن الإصرار على الضغط على مصر قد يضر بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. أولًا، مصر تعتبر شريكًا حيويًا في مكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. أي توتر في العلاقات قد يدفع مصر إلى تعزيز علاقاتها مع قوى منافسة مثل روسيا أو الصين.
التقرير يذكر أن مصر وقّعت اتفاقيات عسكرية مع روسيا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك صفقات لشراء طائرات مقاتلة وأنظمة دفاع جوي، مما يشير إلى أن لديها خيارات بديلة إذا شعرت بالضغط المفرط من أمريكا.
ثانيًا، التركيز على دور مصر في غزة يصرف الانتباه عن المسؤولية الأكبر التي تقع على إسرائيل، التي تفرض حصارًا شاملًا على القطاع منذ عام 2007. الولايات المتحدة، كحليف رئيسي لإسرائيل، تمتلك نفوذًا أكبر على تل أبيب.
بدلًا من تحميل مصر مسؤولية تخفيف الأزمة الإنسانية، يمكن لأمريكا الضغط على إسرائيل لتسهيل وصول المساعدات عبر معابر مثل كرم أبو سالم.
التقرير يشير إلى أن إسرائيل تتحكم في حوالي 70% من مداخل غزة، بينما معبر رفح يمثل أقل من 30% من حركة البضائع والأفراد، مما يجعل تركيز الضغط على مصر غير عادل.
ثالثًا، إضعاف دور مصر كوسيط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قد يترك فراغًا خطيرًا. فقد نجحت القاهرة في التوسط في اتفاقيات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في أعوام 2014 و2021 و2023، مستفيدة من علاقاتها الفريدة مع كلا الطرفين. التقرير يؤكد أن هذا الدور لا يمكن لأمريكا أو أي طرف آخر تعويضه بسهولة، خاصة مع تراجع نفوذ قطر وضعف أدائها كوسيط في السنوات الأخيرة.
البديل: تعاون استراتيجي بدلًا من الضغط
بدلًا من الضغط، يمكن لأمريكا تعزيز التعاون مع مصر بما يتناسب مع أولوياتها الأمنية والاقتصادية. أولًا، يمكن تقديم دعم إضافي لمكافحة الإرهاب في سيناء، مثل توفير تكنولوجيا مراقبة متقدمة أو تمويل برامج تنمية اقتصادية في المنطقة، مما يمكن أن يقلل من مخاوف مصر بشأن غزة.
ثانيًا، يمكن لأمريكا العمل مع مصر وشركاء دوليين، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتطوير خطة لإعادة إعمار غزة، على أن يتم توزيع المسؤوليات بشكل عادل. التقرير يقترح إنشاء صندوق دولي لدعم غزة، تشارك فيه دول الخليج وأمريكا، لتخفيف العبء عن مصر.
ثالثًا، يمكن لأمريكا دعم مصر في تعزيز دورها كوسيط إقليمي من خلال تقديم دعم دبلوماسي ولوجستي لمبادرات التهدئة بين إسرائيل وحماس. على سبيل المثال، يمكن تمويل برامج تبادل اقتصادي عبر معبر رفح تحت إشراف مصري، مما يعزز الاستقرار في غزة دون المساس بالأمن المصري.
خلص الباحثون في تقرير معهد الشرق الأوسط إلى أن الضغط على مصر بشأن غزة لن يحقق أهداف أمريكا في تخفيف الأزمة الإنسانية أو تعزيز الاستقرار الإقليمي. على العكس، قد يؤدي هذا إلى تقويض الشراكة الاستراتيجية الحيوية بين البلدين.
مصر، كما يوضح التقرير، ليست مجرد أداة في السياسة الإقليمية، بل شريك أساسي له أولوياته وتحدياته. النهج الأكثر حكمة هو تعزيز التعاون مع مصر من خلال دعم أمنها الداخلي، تخفيف أعبائها الاقتصادية، وتعزيز دورها كوسيط في المنطقة. هذا التوازن سيخدم مصالح أمريكا طويلة الأمد، ويحافظ على مصر كركيزة للاستقرار في منطقة مضطربة.