في المغرب، كما في غيره من بلدان المنطقة، يعاد طرح سؤال المثقف كلما اشتدت التحديات أو تعقّدت التحوّلات. فما بين مشاريع الإصلاح المتعثرة، وتقلّب مزاج الرأي العام، وتنامي الإحساس العام بعدم الجدوى، يعود السؤال بصيغ شتى: أين المثقف؟ ماذا يقول؟ لماذا يصمت؟ ولماذا يبدو أحيانا كأنه يتكلم خارج اللحظة؟
لكن من الخطأ أن نفترض وجود نموذج واحد للمثقف. فالمثقف ليس وظيفة موحّدة، بل موقع متحوّل، يتداخل فيه الوعي والمعرفة، والسياق والمصلحة، بل والخيبة والطموح معا. بعيدا عن مجال الاشتغال، سواء كان ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا، وبعيدا عن التوجه الفكري لكل منهم، يمكن-لأغراض تصنيفية إجرائية-التمييز بين أربعة أنماط رئيسية من المثقفين، لا تفصل بينها حدود صارمة، لكنها تساعد على فهم أدوارهم ومواقعهم.
أولهم المثقف المثالي، الحالم الذي يكتب وكأن الكلمة وحدها قادرة على إعادة تشكيل الواقع. يراهن على الصدمة، ويؤمن بأن اضطرابا كبيرا قد يؤدي إلى نظام عادل. حضوره يزداد في لحظات الغضب الشعبي، وخطابه جذّاب، لكنه كثيرا ما يتجاهل كلفة الفوضى إذا ما أخفقت الثورة، أو ضاعت البوصلة.
في المقابل، نجد المثقف الواقعي، الأكثر هدوءا، الذي يسعى إلى الإصلاح الممكن بدل الحلم بالمستحيل. ينقي خطابه، يراعي توازنات المجتمع، ويحاول أن يساهم في تغيير تدريجي ومستدام. غير أن صوته قد يبدو خافتا، ويُتهم أحيانا بالتواطؤ مع السلطة أو بالخضوع للمنظومة، وهي اتهامات لا تصمد دائما أمام الفحص الدقيق.
ثم هناك المثقف الصامت، المنكفئ على ذاته أو تخصصه، الذي قد يرى في التدخل في الشأن العام مخاطرة أو عبثا. وهو موقف مفهوم أحيانا، في ظل صعوبة شروط المساهمة العمومية، لكنه قد يتحوّل إلى تخلٍّ عن المسؤولية حين يُترك المجال فارغا لخطابات سطحية أو غوغائية.
وأخيرا، المثقف المتحوّل، الذي يتنقل بسلاسة بين الخطابات، بحسب اتجاه الريح. لا يُعرّف نفسه بمشروع معرفي أو التزام أخلاقي، بل بموقعه من السلطة أو من دوائر التأثير. إنه المثقف المقاول، الذي يجيد الحضور في كل مشهد دون أن يترك أثرا حقيقيا فيه.
في السياق المغربي، يمكن أن نجد ملامح من هذه الأصناف جميعا. بعض المثقفين لا يزال يحمل نفسا مثاليا، خاصة في قضايا الهوية أو العدالة الاجتماعية. وآخرون يتبنون خطابا واقعيا يحاول التوفيق بين الإصلاح والاستقرار. وثمّة من آثر الانسحاب، أو من اختار “تدبير الظهور” بدل المشاركة الفعلية في النقاش العام.
لكن ما نحتاجه اليوم، في ظل هذا الزخم من التحديات، ليس مثقفا يجيد التحليل فقط، بل مثقفا يتحمّل تبعات الكلمة. نحتاج إلى من يربط بين الحلم والواقع، بين النقد والاقتراح، بين استقلالية الفكر وفعالية التأثير. نحتاج إلى من يتعامل مع المجتمع لا كموضوع للفكر، بل كشريك في التغيير.
إن تجديد دور المثقف في المغرب لا يمر فقط عبر إنتاج خطاب جديد، بل أيضا عبر إعادة بناء الثقة بينه وبين المجتمع، وتوسيع مجال استقلاليته، وتمكينه من أدوات التأثير. فالزمن يتغير، والدولة تتغير، والمجتمع يتحرك، لكن دور المثقف لا يمكن أن يبقى معلقا بين الحنين إلى الماضي أو الخوف من الحاضر.
فأي مثقف نريد؟ الأجدر ربما أن نسأل: أي دور نمنحه لأنفسنا كمثقفين في هذه اللحظة المغربية المفصلية؟