قال عبد الكبير الميناوي، أستاذ الأدب الحديث بالكلية متعددة التخصصات بأسفي التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، إن سيرة إدريس لكريني، التي اختار عنوانا لها “سيرة بلا مطر”، تأتي لتذكرنا بقول محمود درويش “بدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان”، وما كتبه غابرييل غارسيا ماركيز حين قال “التذكّر سهل للذين لديهم ذاكرة”.
ولأن “الكتابة شهادة للحياة ومن أجلها”، يأتي كتاب إدريس لكريني ليضعنا في سياق النقاش المتجدد حول سيرة كتبت بصيغة الجمع، حيث يمكن للجيل الذي رأى النور ما بين نهاية ستينيات ومطلع سبعينات القرن الماضي أن يجد فيها نفسه أو شيئا منها.
وأضاف الميناوي، في معرض تدخله في لقاء قراءة في هذا المؤلف، نظم الجمعة، بمراكش: “انطلق لكريني، في سرده لسيرة طفولته وجزء من شبابه، من مرحلة الكُتّاب القرآني، وصولا إلى لحظة مغادرة قريته الصغيرة لولوج الجامعة. وعلى مدى سرد خطي للأحداث والمواقف، نتعرف على شخصية الطفل إدريس، في إقباله على الحياة، في علاقته بأسرته الصغيرة ومحيطه: تلميذا مُجدا مجتهدا، شغوفا بالقراءة، منفتحا على الآخرين مع قدرة تواصلية مفعمة بكثير من الحس الإنساني”.
وتحت عنوان “طفولة بلا مطر” لإدريس لكريني.. بين جمالية السخرية وكتابة الذاكرة”، استعرض الميناوي طرائف ومواقف سخرية تخللت سيرة لكريني طرائف ومواقف ساخرة، تتراوح بين القفشات الضاحكة والمرح الطفولي؛ ما مكن من انتزاع ابتسامة القارئ أو إثارة تعاطفه مع الشخصية المعنية بالموقف المحرج، ما دام أنها تتجه إلى الفكرة أو الموضوع لكي تنال منه بأسلوب ساخر”.
وأبرز أستاذ الأدب الحديث نفسه أن لكريني “في توظيف السخرية وفواصل من المرح للدفع بمضمون الكتابة إلى أقصى درجات المتعة في تناول عدد من المواقف التي يصير التعاطي معها شيقا بالنسبة للقارئ، وبقدر ما وظفت فواصل المرح وروح الدعابة كوسيلة للتعامل مع مواقف محرجة، تحولت، في جانب منها، إلى محاكمة لسياسات وانتقاد لتصرفات تبدو في غير محلها”.
يُحسب للكريني أنه “مهد لكل محور من مذكراته بمثل أو قول مأثور لكاتب أو مفكر، بشكل جعل هذه العتبات تختصر جانبا من قناعاته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ربطه عنوان “الجفاف والحب” بقول لمحمد غدو، وهو شاعر من قريته بني عمار عاش حياة قاسية، جاء فيه: “هجر الحمام قريتي، حل الجراد”؛ وقول آخر للشاعر الفلسطيني محمود درويش، تحت عنوان “الرحيل”، جاء فيه أن “الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء”. أما تحت عنوان “الطريق إلى “العين” فأتحفنا الكاتب بمثل موزمبيقي يقول: “الطريق مصنوع بالمشي”، وفق تعبير الميناوي.
وختم الناقد: “بما يمكن أن يعطينا صورة لما سيصير عليه الكاتب، بشكل يؤكد أن “في كل بالغ يوجد الطفل الذي كان، وفي كل طفل يوجد الراشد الذي سيصبح”. ومما نقرأ، في هذا الصدد، تحت عنوان “عاشق “الست””: “انتهت العطلة الربيعية، فغادرت القرية راجلا، باتجاه مركز “النزالة”، حاملا معي حقيبتي وآمالي. عادة ما يتأخر وصول الحافلة المتجهة نحو فاس، وكثيرا ما لا تتوقف بسبب عدم وجود مقاعد فارغة. كنت ألجأ إلى “الأوطوسطوب” ملوحا بيدي للشاحنات والسيارات التي تعبر الطريق. توقفت شاحنة بيضاء أمامي، وصعدت إلى جانب السائق الذي كان في العقد الخامس من عمره. أخبرته بوجهتي. لم تكد تقطع سوى بضعة كيلومترات حتى بدأ المطر في التساقط. بدا المنظر جميلا أمامنا. نسير بين حقول خضراء مترامية على امتداد البصر، ووديان صغيرة تتدفق بجانب الطريق. أخرجت “كاسيت” لأم كلثوم من حقيبتي، وطلبت منه تشغيلها”.
وتابع لكريني “بدا الصوت رديئا لأنها لم تكن أصلية، أخرجها وأرجعها لي بأدب، ثم فتح خزانة تقع أمامه في أعلى الشاحنة، تضم عددا كبيرا من “الكاسيت” الأصلي، ثم خاطبني:
“كل هذه الأشرطة لأم كلثوم وهي أصلية، اختر ما تريد سماعه من بينها”. تركت له حرية الاختيار، ثم راح يتحدث على إيقاع موسيقى أغنية “ألف ليلة وليلة”، عن حبه لأغاني الست، وكيف حرص على حضور حفلها الذي أحيته بالرباط في مارس 1968، ثم أضاف أنه زار مصر بعد وفاتها، وكان حريصا على زيارة قبرها، بل وقدم مبلغا مهما من المال لفقيه بالمقبرة، وطلب منه أن يقرأ بعض الآيات القرآنية بشكل منتظم ومستمر ترحما على روحها”.
و“عند مدخل المدينة سألني عن عملي في فاس، فأخبرته أنني تلميذ مقبل على الحصول على شهادة الباكالوريا، حثني على الاجتهاد، مضيفا: “لقد ندمت متأخرا، لعدم استكمال دراستي، وها أنا أدفع الثمن، بعملي الشاق وسفرياتي الليلية بعيدا عن أسرتي”. عندما وصلت إلى وجهتي، أخرجت ورقة نقدية قدمتها له، فرفض مبتسما، وقال لي مودعا: “عندما تكبر وتتفوق في دراستك، لا تنس “البسطاء” مثلي”.
يذكر أن هذا اللقاء، الذي تناول كتاب “طفولة بلا مطر” المتكون من 152 صفحة و24 عنوانا فرعيا، نظم بإحدى المؤسسات التعليمية بمقاطعة جليز من لدن جمعية وشم للثقافة والفن.